"دعاء أصحاب الكهف: بين الرحمة والرشد في طريق الهداية"
في قلب سورة الكهف، وفي مشهد يغلب عليه الغموض والخوف من بطش الواقع، ينبثق دعاءٌ خالد، قصير في ألفاظه، عميق في دلالاته، تتلوه الأرواح كلما ضاق بها الزمان، أو تاهت بها السُبل. إنه الدعاء الذي قاله أصحاب الكهف حين فرّوا بدينهم إلى الله:
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" [الكهف: 10].
دعاء يتضمن طلبين أساسيين: الرحمة الخاصة والرشد في اتخاذ القرار. ولكن حين نتأمل هذا الدعاء، لا نجده مجرد مناجاة عابرة، بل هو منهج حياة، ودليل نجاة في أزمنة الفتن، وأسلوب روحي للتعامل مع الحيرة والقلق والتردد.
---
الرحمة: من "لدنك" لا من عندنا
جاءت الآية بصيغة توسل راقٍ: "آتِنا من لدنك رحمة". وكلمة "من لدنك" ليست عبثًا، فهي تعني الرحمة التي تأتي مباشرة من خزائن العطاء الإلهي، لا من أسباب الدنيا ولا من جهودنا المحدودة. إنها الرحمة الخاصة التي تنقذ لا لأننا نستحق، بل لأن الله رحيم.
هذه الرحمة قد تكون:
هدوءًا في القلب رغم العاصفة.
مخرجًا من مأزق لا نرى له نهاية.
إلهامًا في وقت الحيرة.
سترًا من فتنة أو بلاء قبل وقوعه.
إنها ليست بالضرورة مالًا أو نصرًا ظاهرًا، بل نعمة خفية تسري في تفاصيل الحياة، تُصلح الداخل، وتلطف الخارج.
---
الرشد: غاية الهداية ومفتاح السلامة
ثم يأتي الطلب الثاني: "وهيّئ لنا من أمرنا رشدًا".
كأنهم يقولون: "يا رب، لا نعرف إلى أين نذهب، وقد اختلطت علينا السبل، فارزقنا القرار الصائب، والاختيار السليم، والتوجه الذي يرضيك."
الرشد ليس فقط معرفة الخير، بل اختياره في الوقت المناسب، والسير فيه بثبات. الرشد هو الفرق بين الذكاء والحكمة، بين العلم والعمل، بين النية والتطبيق.
ولذلك، حين يجتمع "الرحمة" و"الرشد"، نكون أمام وصفة ربانية للنجاة من كل ضيق، وللوصول إلى بر الأمان، لا عن طريق الحيلة، بل عن طريق التوفيق الإلهي.
---
سياق الدعاء: الهروب إلى الله
الجميل في هذا الدعاء أنه قيل من شباب مؤمنين، واجهوا تحديات وجودية: عقيدة مرفوضة، سلطة قمعية، واقع فاسد، ومصير مجهول. ومع ذلك لم ينهاروا، بل لجأوا إلى الله، وتوسلوا إليه بهذا الدعاء العميق.
إنهم لم يطلبوا القوة ولا الغلبة، بل طلبوا الرحمة والرشد، وكأنهم أدركوا أن النجاة لا تكون بالقوة، بل بالحكمة والرحمة.
فجاء الرد الإلهي سريعًا:
"فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا"
أي: أسدلنا عليهم ستارًا من الرحمة والنوم، وكأن النوم هنا كان أعظم حماية من المواجهة المباشرة.
---
لماذا نحتاج هذا الدعاء اليوم؟
في عالمنا الحديث، نحن نعيش في كهف من نوعٍ آخر:
ضجيج الخيارات،
ضبابية القيم،
فتن تلبس ثوب الحكمة،
وقرارات مصيرية تحيط بنا من كل جانب.
وقد نظن أن الحل في سرعة التفكير، أو المنطق العقلي، أو استشارة الأصدقاء، وكلها وسائل مهمة، لكنها ليست كافية إن لم تسبقها الرحمة الربانية والرشد الإلهي.
هذا الدعاء لا يعصمنا من اتخاذ قرارات خاطئة فقط، بل يفتح لنا أبوابًا لم نكن نحسبها، ويضعنا في مسارات لم نكن نراها، ويُبعد عنا شرورًا لم نكن نشعر بقربها.
---
دعاء يمكن أن يكون وردًا يوميًا
إذا كنت تمرّ بمرحلة:
انتقالية في حياتك،
تحت ضغط نفسي،
في مفترق طرق،
أو في مواجهة قرار صعب...
فاجعل هذا الدعاء رفيقك اليومي. وردد:
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"
ليس فقط بلسانك، بل بقلبك، بعقلك، بنيّتك، واستسلامك الكامل لله.
---
في الختام: مفتاح الخروج من الكهف
إن دعاء أصحاب الكهف لا ينتمي فقط إلى قصة تاريخية، بل هو مفتاح رمزي لكل إنسان يحاول الهروب من ضيق الدنيا إلى سعة الله.
كل كهف نلجأ إليه طلبًا للأمان، وكل لحظة عزلة نبحث فيها عن النور، تستحق أن تُفتتح بهذا الدعاء.
فيا من أُغلقت في وجهه الأبواب، ويا من حار في زمانه الطريق، اجعل هذا الدعاء طوق نجاتك، وأيقن أن الله لا يرد من طرق بابه بإخلاص.
"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"
دعاء قليل الكلمات... عظيم الأثر.